اكتشاف موقع عين سالم: ثاني أهم موقع بعد عماد السيد المسيحد- محمد وهيب-كلية الملكة رانيا للسياحة والتراث في الجامعة الهاشمي
البروفيسور محمد وهيب*
عمان- في مؤتمر دراسات تاريخ وآثار الأردن الثالث عشر الذي عقد خلال الفترة ما بين 21 – 26/5/2016 في رحاب جامعة الأميرة سمية للتكنولوجيا في عمان، أعلنت عن اكتشاف موقع عين نون ساليم او (عين سالم)، الذي استغرق العمل عليه أكثر من 10 أعوام.
ويتواجد موقع عين نون ساليم على سفوح مادبا الغربية، ويحده من الشمال وادي حسبان، ومن الشرق جبل نبو، ومن الغرب موقع عماد المسيح (المغطس)، ومن الجنوب الطريق الروماني الدولي، ويقع الاكتشاف على هضبة مطلة على سهول الرامة والكفرين وتل الرامة وتل اكتانوا في منطقة لواء الشونة الجنوبية.
وتبلغ مساحة الموقع حوالي 50 دونما ويزيد، ويجاوره محيط يعتبر الاغنى في تاريخ الحضارات القديمة، ويرتبط الموقع بسيرة النبي يحيى عليه السلام الذي أمضى معظم حياته في وادي الأردن، ويسمى هذا الموقع في سجلات دائرة الاراضي بحوض عين سالم، كما ورد ذكر الموقع في (انجيل يوحنا 3: 23) باسم عين نون قرب ساليم.
وأمام هذا الاكتشاف العالمي بجوار موقع عماد السيد المسيح نرجو ان يحظى هذا المكان بالاهتمام والرعاية والتطوير والتوثيق باعتباره ثاني أهم موقع بعد موقع عماد السيد المسيح. وسيكون لهذا الاكتشاف اثار اقتصادية واجتماعية وفكرية وسيغطي حقبه مفقودة من الحقب التاريخية المرتبطة بالنبي يحيى عليه السلام وبالدعوة المرتبطة بالأنبياء الياس ويحيى واليسع، اضافة إلى الحجاج والمؤمنين واتباعهم الذين جاهدوا في بدايات الدعوة لإيصال كلمة الحق إلى مسامع الناس وإقامة مملكة العدل من أخفض بقاع الكرة الارضية.
وقد توج الجهد العلمي الذي تم بذلته وامتد لأكثر من 10 اعوام شاركني فيه العديد من الباحثين والخبراء الأردنيين المتخصصين في مجال علم الآثار قاطبة بالوصول إلى هذه الحقائق.
لقد امضى النبي يحيى عليه السلام وأتباعه آخر أيامه في هذا المكان بعد أن غادر موقع العماد التقليدي في بيت عنيا شرقي نهر الأردن ومن ثم اعتقاله ونقله إلى مكاور لينال الشهادة هناك، وغادر المسيح عليه السلام في الاتجاه المعاكس إلى القدس لينتهى فصل آخر من سيرة الانبياء والرسل من عين نون ساليم المباركة إلى القدس الشريف، وقد قام وفد ديني ايطالي بزيارة المكان والإطلاع عليه في العام الماضي.
وان الدلائل التي تم التوصل اليها تشير بما لا يقبل الشك ان الجنود الرومان القوا القبض على النبي يحيى في عين نون ساليم في وادي حسبان السفلي الواقع ضمن حدود عين ساليم؛ حيث تنتشر الكهوف هناك بشكل ملفت بجوار المياه العذبة الجارية بجوار الطريق الروماني الذي تم الآن اكتشاف اجزائه السفلية ومصاطبه الحجرية والمقاطع الصخرية التي يعبرها قادماً من حسبان باتجاه اريحا وبالعكس، وهذا المكان يقابل وادي قدرون الذي اشار فيه المؤرخون الى انه المكان الذي اعتقل فيه المسيح عليه السلام على الجانب الغربي لنهر الأردن.
ويعتبر عين ساليم اكتشافا عالميا مهما على مختلف الصعد وان نتائج البحث العلمي التي توصل اليها من خلال دعم البحث العلمي في الجامعة الهاشمية ادت إلى رسم مسار رحله النبي يحيى عليه السلام في ربوع الاردن بدءا من اقامته في البرية في موقع عماد السيد المسيح ثم انتقاله إلى عين نون ساليم حيث كان يعمد ايضا ويبشر في هذا الموقع ويطهر المؤمنين الداخلين في هذا الدين بالمياه العذبة الجارية والساخنة خلال فصل الشتاء، ثم بعد ذلك انتقاله إلى المحطة الثالثة والأخيرة والفصل الاخير في حياته من حيث انتقاله إلى مكاور؛ حيث استشهاده ووداعه للدنيا، إذ ذكرت المصادر والمراجع التاريخية تلك الحادثه بإسهاب وتفصيل واعتمد تل مكاور حاليا من طرف وزارة الاوقاف كمقام للنبي يحيى عليه السلام.
وعندما جاء البيزنطيون إلى موقع عين نون سالم بجوار هذه المدينة الاجمل في وادي الأردن اعتمدوا المكان واعتبروه مباركا واقاموا فيه ابنية ومرافق وأماكن اقامة وكنائس ومدوا القنوات وحفروا البرك وجلبوا المياه وجمعوها بشكل منظم؛ حيث اشارت الكسر الفخارية والفسيفساء المتناثرة على السطح إلى ان الموقع الذي بدأ منذ القرن الاول الميلادي بلغ اوج ازدهاره خلال العصر البيزنطي بدءا من القرن الرابع الميلادي والخامس والسادس واستمر يقدم تسهيلاته للزوار والحجاج والمؤمنين، حتى جاء الرحالة يوثقونه ومنهم الحاجه أيجيريا التي زارت الميل السادس قرب عين سالم وأشارت إلى بناء الكنيسة مثلما اشار الرحاله الذين اكدوا اهمية المكان ودوره التاريخي.
ولكن الأكثر إثارة في هذا الاكتشاف هو الجهود التي بذلها العلماء والرحالة والخبراء قديما في البحث عن المكان في عدة اماكن بهدف الوصول اليه واكتشاف اسراره وحقائقه العلمية والدينية، وبدأ هذه الجهود المؤرخ يوسيبوس القيصري في القرن الرابع الميلادي، مشيرا إلى امكانية وجوده في جنوب بيسان في فلسطين، إلا ان بوركوبيوس عام 390م اقترح ان تكون سالم في القدس وتناقض رأيه بين القدس وبيسان وبقيت جهود البحث متوقفه منذ ذلك الوقت ولم يكتشف الموقع، وذهب الباحث المشهور في بحثه عن عين ساليم في مطلع القرن الماضي اولبرايت إلى نفي ان تكون بيسان هي المكان المفضل للموقع بسبب غياب الادلة الأثرية ثم توجه إلى تبني مقترح موقع أم العمدان وذلك اثناء بحثه عن موقع سالم على الجانب الغربي لنهر الأردن.
وفي العام 1940 انتقل البحث عن موقع عين نون ساليم من الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي من نهر الأردن بعد وصول عمليات البحث عنها الى طريق مسدود في الجانب الغربي وبدأت حظوظ الأردن تتزايد في ظهور الموقع على اراضيه على الجانب الشرقي لنهر الأردن؛ حيث اتجه الخبير موميرتس في بحثه العام 1940 إلى ان عين نون قرب ساليم تقع في وادي جرم الموز في طبقة فحل في الاغوار الشمالية، كما اقترح ايضا تل شرحبيل المتواجد بجوار مقام الصحابي شرحبيل بن حسنة بانه الموقع المقترح، إلا انه لم يحظ بالاهتمام لقلة الادلة ولم يصمد اقتراحه كثيرا.
ولكن البحث الأكثر قوة وتأثيرا في هذا المجال هو الذي قاده الرحاله المشهور انطونيوس الشهيد منذ العام 570م؛ حيث اشار إلى وجود مدينة ساليم في سهول الرامه والكفرين قرب تل الحمام وتل اكتانوا في سهول الرامة والكفرين وهي المنطقة نفسها التي يتناولها هذا البحث والاكتشاف حيث ظهرت دلائله الأولى العام 2002 م اثناء اجراء مسوحات وادي الكفرين، ولعل ما ذهب اليه الباحث الشهير كوب في كتابه الشهير (الكتب المقدسة) الصادر العام 1963 من أن موقع عين نون ساليم لا بد أن يكون قريبا من مكان عماد السيد المسيح، وحينها لم يكن موقع العماد مكتشفا، اما الآن وبعد اكتشاف موقع العماد فان افتراض كوب متطابق مع الاكتشاف الجديد؛ حيث يقع الموقع المكتشف حوالي 5 كم إلى الشرق من موقع المغطس.
وبهدف التثبت من تلك الدلائل وطروحات الرحالة والمؤرخين قمت بصحبة فريقي البحثي بإجراء دراسات ومسوحات وتنقيبات أثرية في موقع تل عين ساليم العام 2002، ومن خلال أعمال التنقيب الميدانية تم التوصل إلى اكتشاف موقع متكامل الاركان ومكان اقامة يرجع للعصور الكلاسيكية العصر الروماني والبيزنطي والعصر الحديدي الثاني، وهذه العصور تتزامن مع تاريخ كل من النبي الياس عليه السلام في العصر الحديدي الثاني أي ما يعادل 700-900 ق.م. وكذلك النبي يحيى والسيد المسيح في القرن الأول الميلادي والحجاج البيزنطيين في القرن الرابع والخامس والسادس الميلادي.
كما قام فريق التنقيب باكتشاف أبراج المراقبة والمتواجدة على طول امتداد واطراف الطريق الروماني الدولي الذي يربط بلدة حسبان على الجانب الشرقي لنهر الأردن مع مدينة اريحا عبر نهر الأردن على الجانب الغربي؛ حيث يمر ويعبر الطريق من عين ساليم وكان الحجاج يستخدمون الطريق للوصول إلى عيون موسى والى جبل نبو والى حسبان وام الرصاص اثناء رحلتهم الدينيه عبر العديد من المواقع ومن أبرزها موقع (المحطة) والتي ما زالت تحمل الاسم نفسه كونها كانت محطة حجاج عبر التاريخ وتحوي على اماكن اقامة الحجاج وخان ومرافق بجوار عين ساليم.
ورافق عمليات التنقيب والاكتشاف مسوحات أثرية شاملة ادت إلى الكشف عن عشرات الكهوف في اجزاء عين ساليم الشمالية والغربية كانت تستخدم من طرف الرهبان والنساك ورجال الدين اثناء إقامتهم وتنسكهم على ذكرى الانبياء والرسل في هذه المنطقة.
وتم أيضا إجراء دراسة للينابيع المتواجدة في المنطقة؛ حيث تم احصاء اكثر من 10 ينابيع تنتشر على مساحة 50 دونما منها نبع عين ساليم، ونبع الفوارة، ونبع ساره، ونبع ام جريس، إضافة إلى عدد من الينابيع الساخنة، كما تم تتبع مواضع عدد من الينابيع الجافة في الموقع دلت عليها آثار قنوات المياه الظاهرة على سطح الارض، وخاصة النبع الشمالي الشرقي وقنواته الماثلة على الارض، وقناة نبع الفوارة التي تمتد لأكثر من نصف كيلو متر، وما تزال المناهل والصفايات ماثلة للعيان تنقل مياه الينابيع إلى عدة أماكن داخل الموقع.
وما تزال الينابيع التي تصب في وادي حسبان في الاجزاء الشمالية من الموقع نشطة وعذبة ويستخدمها الرعاة حاليا لأغراض الشرب، جنبا الى جنب المياه المتدفقة في وادي حسبان بحجم كبير؛ حيث اقيم حاليا سد تحويلي على مياهه العذبة.
ولعل وفرة المياه هنا يرفدها مجرى ضخم وهو وادي الكفرين الذي اطلق عليها الرحالة القدامى (نهر الأردن الصغير) وعشرات الينابيع المجاورة له؛ العذبة والساخنة في الروضة، والمحترقة، وجوارها في منطقة عين ساليم بحيث كانت المنطقة اشبه بجنة الله على الارض، وهذا ما دفع حاكم المنطقة المسمى هيرود انتيباس خلال العصر الروماني الى اقامة قصر شتوي ومنتجع فيها للاقامة كما انه قدم للإمبراطور الروماني حينها هدية بأن اطلق اسم زوجته ليفياس على هذه المنطقة تكريما لها، مما اكسبها شهرة عالمية في ذلك الوقت كونها اجمل واخفض بقاع الكرة الارضية قاطبة.
وقد اندفع حجاج العالم من دول أوروبا وآسيا عندما سمعوا بها ووصلتهم اخبارها وسيرة الانبياء فيها نحوها بشغف ولهفة خلال العصر البيزنطي، وأكد الحجاج والرحاله من قبلهم ان مدينة ساليم قرب العيون هذه كان فيها نبع ماء مبارك مقدس من شرب منه شفي بإذن الله مهما كان مرضه، وأن فيها اطيب انواع التمر على سطح الارض وذالك النوع المسمى (التمر النقلاوي) الذي كان الحجاج ينقلونه الى أوروبا وروسيا كأفضل وأجمل هدايا من هذه المنطقة المباركة مع مياه النبع التي حصلوا عليها ينقلونها في قوارير إلى بلدانهم للاستشفاء بها لمن لم يتمكنوا من القدوم الى هذا المكان وزيارته.
الاستاذ في كلية الملكة رانيا للسياحة والتراث في الجامعة الهاشمية*