عالم السياحة-اندبندنت:ثقافات
لا بد للقادم إلى باريس في الأيام المقبلة، أو للمقيم فيها، من زيارة متحف “اللوفر”، لا لأن القطع الأثرية والأعمال الفنية التي تتوزّع داخل صالاته تختصر على أفضل وجه تاريخ البشرية ومختلف فنونها، وبالتالي تبرّر وحدها هذه الزيارة، بل لأن المعرض الذي ينظّمه حالياً تحت عنوان “فرعون الأرضَين، ملحمة ملوك ناباتا الإفريقية”، لا يُفوَّت.
وتجدر الإشارة بدايةً إلى أن حضارة مصر القديمة تحظى بحصة الأسد من اهتمام القائمين على هذا المتحف العريق، منذ تأسيسه عام 1793، كما يشهد على ذلك عدد المعارض الذي رصدت لها حتى اليوم. لكن بخلاف هذه المعارض التي نُظِّمت بشكلٍ رئيس انطلاقاً من قطع أثرية فرعونية تنتمي إلى مجموعة المتحف الخاصة (الأكبر في العالم)، يرتكز المعرض الحالي على عشرات القطع المجهولة التي عُثر عليها حديثاً، ولا تكمن قيمتها في سحرها فحسب، بل خصوصاً في رفعها الحجاب عن جزء من تاريخ منطقتنا، لا يزال مجهولاً. وبقيامها بذلك، تقلب الصورة المكرَّسة لمصر القديمة وتاريخها.
وفعلاً، منذ القدم، نُظِر إلى أرض الفراعنة كحضارة تشيح بوجهها نحو حوض المتوسط والحضارات الشرقية المنافسة لها، لا نحو القارة التي تنتمي جغرافياً إليها، وتحديداً نحو جيرانها الأفارقة الذي كانوا يعيشون بدورهم على ضفاف النيل، ويُطلَق عليهم اسم النوبيين أو الإثيوبيين، وهم في الواقع سكان مملكة كوش. لكن الحقيقة هي أن “هؤلاء الجيران كانوا موجودين دوماً، وإن لم نصغِ إلى صوتهم. فمملكة كوش معروفة جداً، وغالباً ما تذكرها التوراة. وإن قرأنا الأدب الإغريقي، لسمعنا مراراً عنها”، يقول فانسون روندو، مدير قسم الآثار المصرية في متحف “اللوفر” وأمين المعرض الحالي المرصود لهؤلاء النوبيين الذين احتلوا مصر وحكموها على مدى عقود. معرض يطمح إذاً إلى ان يردّ إلى مصر جزءاً من هويتها الإفريقية.
انتقام الكوشيين
نعرف أن الفراعنة، تحتمس الأول والثاني والثالث، حكموا جيرانهم الجنوبيين منذ القرن الخامس عشر قبل الميلاد، مدشّنين بذلك مرحلة طويلة من الهيمنة السياسية، شكّلت أيضاً مرحلة تثاقُف خصبة يشهد عليها تبنّي أبناء هذه المناطق التي تقع في السودان اليوم، الديانة المصرية ومختلف رموزها وجمالياتها. ولكن بما أن لا شيء يدوم إلى الأبد، شهدت مصر في القرن الثامن قبل الميلاد مرحلة اضطرابات ونزاعات داخلية مزّقتها إلى ممالك صغيرة حكمتها أسر ضعيفة، الأمر الذي أفقدها سيطرتها على الكوشيين ومنح هؤلاء الفرصة للانتقام منها.
هذا ما تسرده باللغة الهيروغليفية شاهدة ضخمة عُثر عليها حديثاً وتشكّل وثيقة تاريخية حُفرت على جانبيها نحو عام 720 قبل الميلاد مآثر الملك بيعنخي الذي خرج بجيشه من عاصمته ناباتا (أو نبتة) واحتل مصر، مدينة بعد مدينة، حتى وصل إلى ممفيش، أي إلى مدخل وادي النيل، مؤسساً بذلك الأسرة الخامسة والعشرين التي حمل ملوكها الخمسة لقب فرعون وحكموا مصر. أسرة لا شيء يميّزها عن الأسر السابقة، نظراً إلى تبنّي الكوشيين عادات المصريين وتقاليدهم، إضافةً إلى آلهتهم. وحول هذه النقطة، يوضح روندو: “أحد مشاغل بيعنخي الرئيسة كان السهر على احترام المصريين آلهتهم. ومن هذا المنطلق، كان فرعونياً أكثر من فراعنة مصر”.
فتح مصر
المعرض الحالي يعيد خط ملحمة فتح مصر على يد هذا الملك، متوقفاً ملياً عند عهد أشهر ملوك أسرته، طاهرقا (أو طهارقة)، وعند هزيمة ملكها الأخير، تنوت أماني، على يد الآشوريين. سردية كرونولوجية بنصوص تتوزع داخل صالاته وبقطع أثرية رائعة ترافق هذه النصوص وتتراوح بين تماثيل لأبي الهول ولآلهة فرعونية مختلفة، وتمائم وبرديات ومجوهرات وأقمشة وأسلحة وإناءات وزجاجات عطور… قطع اكتُشِف معظمها أثناء الحفريات الأثرية في المنطقة خلال السنوات الأخيرة، وتسمح في طريقة ترتيبها بمقارنات مدهشة، كتلك المقابلة بين تمثالَين متشابهين نرى في كل منهما الإله ــ الكبش آمون يحمي الفرعون: الأول للفرعون أمنحتب (أو أمينوفيس) الثالث، والتمثال الثاني لطاهرقا الذي عاش بعد سبعة قرون منه، لكنه احترم الممارسات والتقاليد التصويرية لأسلافه البعيدين.
لكن ثمة فوارق صغيرة في هذه التماثيل لا بد من الإشارة إليها، لكونها تبيّن رغبة الكوشيين في إظهار أصولهم الجنوبية، كملامح وجوه ملوكهم التي تبدو أكثر استدارةً، بالتالي أكثر إفريقية، إضافة إلى ارتدائهم غالباً غطاء الرأس الخاص ببلدهم، أي تلك القلنسوة المميَّزة، وظهور ثعباني كوبرا وليس واحداً، على رؤوسهم، ربما للإشارة إلى أنهم كانوا يحكمون أرضَين، مصر وكوش. فوارق تتجلى خصوصاً في التماثيل السبعة التي اكتُشفت عام 2003 في حفرة، وأعيد تشكيلها بطريقة خيالية، وفقاً لفرضيات علماء الآثار. تماثيل يظهر فيها الفرعون طاهرقا بقلنسوته الذهبية برفقة خلفائه سنكامانسكن، أنلماني، أسبالتا وأرامتل.
باختصار، يُظهر المعرض الحالي مدى ثراء مغامرة فراعنة الجنوب في مصر على مستوى الإنتاج الفني، وإن لم تدم أكثر من ستة عقود، متوقفاً عند أبرز فصولها التي حصلت داخل مدينتين: ممفيس، مرفأ مصر الرئيس وعاصمتها الاقتصادية والإدارية والاستراتيجية التي اختارها فراعنة الجنوب لممارسة حكمهم؛ وطابا، العاصمة الدينية التي كانت تستضيف معبد آمون وتتنافس داخلها عدة سلطات، والمكان الذي أدّت فيه بنات الفراعنة البكر، باعتبارهن “المتعبِّدات الإلهيات” أو “الكاهنات الكبيرات”، دور الوسيط بين آبائهن ورعاياهم، من جهة، وبين مصر وآلهتها، من جهة أخرى.
مغامرة مجيدة كان يمكن أن تستمر طويلاً لولا تمكّن ملوك دلتا النيل، بفضل تحالفهم مع إمبراطور المملكة الآشورية، أشوربانيبال، من هزم الكوشيين في العام 660 قبل الميلاد، واستعادة السيطرة على بلدهم. وهذا لا يعني أن الحضارة الكوشية اندثرت إثر هذه الهزيمة، بل دامت حتى القرن الرابع الميلادي على أرضها الأم. لكن هذه مغامرة أخرى لا تقلّ إثارةً، وإن لم تجد بعد راويها.