السياحة الاستيطانية-فلسطين
عالم السياحة-تقرير-رغدة عتمه
من بعيد، يراقب نشأت القريوتي (60 سنة) الوفود السياحية التي تجلس في أرضه وتلتقط الصور التذكارية بابتسامة عريضة تبين مدى السعادة والانبهار بجمال الطبيعة الخلابة هناك، حيث يمتلئ المكان بأشجار الزيتون واللوزيات والحمضيات التي يتوسطها نبع مياه عذبة مع بركة صغيرة. القريوتي الذي شبه أرضه بـ”قطعة من الجنة”، حرم منذ بداية ثمانينيات القرن الماضي الاقتراب منها أو التمتع بأي من خيراتها، بحسبما يقول، فسلطة الآثار الإسرائيلية وبعد سلسلة من الحفريات والتنقيبات والمكتشفات الأثرية، ادعت أن “خربة سيلون” في قرية قريوت وسط الضفة الغربية التي تقع بجوار أرض القريوتي، هي إرث يهودي خالص يحمل أهمية تاريخية ودينية وتراثية بالغة بالنسبة لليهود، وفرضت سيطرتها على المنطقة البالغ مساحتها 330 ألف متر مربع.
ويعتقد علماء آثار إسرائيليون، أن الآثار المكتشفة من حفريات أثرية وأرضيات فسيفساء، ومغر وجرّات تخزين وفخاريات وأدوات أخرى، ربما كانت موقع الخيمة أو ما يعرف بـ”تابوت العهد” لمدة 369 عاماً، عندما دخل بنو إسرائيل الأرض المقدسة لأول مرة، وأن اكتشافات أخرى منسوبة إلى بني إسرائيل في حقبة ما قبل الهيكل (بحسب الرواية اليهودية).
“تل شيلو”
يقول القريوتي لـ”اندبندنت عربية”: “كنا نعيش في خربة سيلون كمزارعين ونضع خيامنا في مواسم الزيتون واللوزيات لنستريح فيها وننام حتى انتهاء موسم القطاف، وعين الماء كانت تغذي كل الأراضي الزراعية المحيطة بالموقع والبالغة مساحتها 22 مليون متر مربع، لكن السلطة الإسرائيلية جعلت كل ذلك أثراً بعد عين وحرمنا من أراضينا التي نعتاش منها، بل أصبحنا مثل الغرباء ومُنعنا من الدخول أو الاقتراب. عام 2018 وبعد حظر دام 35 عاماً، دخلت للخربة التي تغير اسمها لمتنزه ’تل شيلو’ ليس كصاحب أرض يملك أوراقاً تثبت ذلك، لكن كسائح، وقمت بدفع رسوم دخول لأشاهد أرضي وأبكي على حالها، حيث أصبحت مرتعاً للمستوطنين وأبنائهم وللسياح من مختلف دول العالم”.
يضيف، “راقبنا التنقيبات على مدار سنوات، ولم يعثر على أي آثار يهودية، بل زُرعت آثار ورموز يهودية وتوراتية في المكان، فيما طمست كثير من الآثار الإسلامية والمسيحية”.
وفيما تروج جهات إسرائيلية أن الموقع يهودي – مسيحي، تشير وزارة السياحة والآثار الفلسطينية بدورها إلى أن “خربة سيلون” التي يمتد عمرها إلى 1500 عام، شهدت حقبات تاريخية وآثاراً ترجع لحضارات مختلفة من العهد البيزنطي والكنعاني والعربي والإسلامي، ومن أشهرها مسجدا العمري والستين، والحفريات الموجودة هي عبارة عن كنيستين تملؤهما الفسيفساء إضافة إلى المغر وآبار المياه، وموقع محفور بالصخر يقال، إن صندوق العهد حفظ فيه، إضافة الى منطقة “الميدة”، التي يعتقد أنها سميت بذلك لنزول مائدة الطعام على النبي عيسى في ذلك الموقع.
وتقول بيانات إسرائيلية وفلسطينية رسمية، إن هناك ما بين 6 آلاف و10 آلاف موقع أثري معروف في الضفة الغربية، وبقايا آلاف السنين من استيطان الحضارات منذ العصر الحجري الحديث.
سوء استخدام
الناطق باسم وزارة السياحة والآثار الفلسطينية جريس قمصية يقول، “هذا النوع من السياحة سيؤدي وبشكل تدريجي لتهميش السياحة للمواقع الدينية والآثرية والطبيعية الفلسطينية واعتبارها سياحة لإسرائيل. إن تأكيد الحكومة الإسرائيلية على المنحى التاريخي اليهودي لبعض المواقع يعد سوء استخدام أيديولوجي لأدلة أثرية، فالمستوطنون من خلال هذه السياحة العنصرية يهدفون للحصول على الدعم من أجل بقائهم على الأرض الفلسطينية، والتلاعب بمشاعر السياح لتنفيذ مشروعهم الاستيطاني. الضفة الغربية جزء لا يتجزأ من تاريخ فلسطين، وخطة الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة للتراث بمثابة عدوان على الحق الثقافي للشعب الفلسطيني، لأن وضعية الضفة الغربية يحددها الفلسطينيون”.
فيما أكد حنانيا حزمي، رئيس دائرة الآثار للإدارة المدنية الإسرائيلية في الضفة الغربية أن “حق إسرائيل لإجراء أعمال أثرية في المنطقة يخضع للقانون الدولي والاتفاقات المؤقتة مع الفلسطينيين”.
ميزانيات للتطوير
ضمن قائمة المواقع “التراثية الوطنية” التي تُمَول من قبل الحكومة الإسرائيلية، يعتبر الاستثمار المالي في الموقع من أعلى الاستثمارات في المواقع السياحية الاستيطانية في الضفة الغربية، حيث استثمر في الموقع حوالى 20 مليون شيكل (6 ملايين دولار) لغرض تطويره، حيث أقيم مشروع متنزه تل شيلو (المسمى اليهودي لخربة سيلون) على مساحة 11 ألف متر مربع، شمل قاعة للمناسبات وأخرى للمؤتمرات وفندقاً ومسرحاً ومدرجاً ومتحفاً يعرض أبرز المكتشفات الآثرية في الموقع، إضافة لبرج سينمائي ضخم مكون من طابقين يعرض بداخله تاريخ موقع “تل شيلو “من وجهة نظر إسرائيلية بأسلوب تقني حديث، ويجذب متنزه شيلو الأثري حوالى 12 ألف زائر سنوياً من جميع أنحاء العالم.
يغال دلموني، الرئيس التنفيذي لمجلس “يشع” (الاستيطاني) يقول لـ”تايمز أوف إسرائيل”: “الرغبة في إحياء الوجود اليهودي النابض بالحياة في مكان مثل شيلو، مع صداه التوراتي المحوري، هي موضع تقدير. إن الرؤية التي ينادي بها مجلس يشع هي السيادة، مع التأكيد مراراً وتكراراً على السيادة وليس الضم. نحن باقون هنا ولن نتحرك، والعرب هنا؛ قد ينتقل بعضهم، وقد لا يفعل ذلك؛ ولكنهم لن يذهبوا إلى أي مكان”.
عام 2020، وافقت وزارة الدفاع الإسرائيلية على إنشاء متنزهات قومية ومحميات طبيعية في الضفة الغربية في إطار مبلغ يفوق 110 ملايين دولار أنفقت في الربع الأول من العام على المستوطنات. وقد شددت وزارة السياحة الإسرائيلية على ضرورة إنفاق التمويل على تطوير المواقع السياحية وبناء الفنادق في مستوطنات الضفة الغربية.
وقالت الوزارة في بيان سابق لها، “ستقدم وزارة السياحة الدعم المالي لبناء فنادق في المناطق السياحية الرئيسة في يهودا والسامرة (المسمى اليهودي للضفة الغربية)”، وجاء في البيان أن زيادة الزوار في الضفة الغربية في السنوات الأخيرة استلزم بناء فنادق جديدة، وأن المشاريع الجديدة في المنطقة لا تحصل على نفس الامتيازات التي تُمنح للمشاريع الفندقية التي تبنى داخل إسرائيل.
دوافع سياسية
يرى مراقبون، أن هذه السياسات الاستيطانية تعزز الادعاءات التوراتية الصهيونية بملكية الأرض، وتحول في الوقت نفسه دون وصول الفلسطينيين إلى مواردهم الطبيعية والثقافية والاستفادة منها في تنميتهم الاقتصادية، لا سيما قطاعهم السياحي. فضلاً عن أن سياحة المستوطنات تستديم اضطهاد الفلسطينيين وقمعهم.
في حين تؤكد جهات رسمية إسرائيلية أنها مساع ثقافية بحتة تساعد في الحفاظ على المواقع من الدمار، غير أن الفلسطينيين انتقدوا تلك الخطوات، ووصفوها بأنها ذات دوافع سياسية.
رئيس المجلس القروي في قريوت نضال البوم يقول، “هذا النوع من الاستيطان والسياحة في خربة سيلون ما هو إلا محاولة لطمس الوجود الفلسطيني ومحاربة الرواية الفلسطينية من خلال الاستناد لروايات توراتية، وإضفاء الصبغة الدينية على المكان من أجل تعزيز الوجود اليهودي، إذ يتم الترويج والتسويق للسياحة الاستيطانية كأنها جزء لا يتجزأ من الرزم السياحية إلى تل أبيب”.
هذه الخطوة أثارت إدانات من المجتمع الدولي، الذي يعتبر المستوطنات في الضفة الغربية غير شرعية، وأظهرت الإحصائيات التي رصدتها منظمة العفو الدولية “أمنستي” خلال عام 2018 أن 4 ملايين سائح زاروا إسرائيل، 45 في المئة منهم زاروا الضفة الغربية والمرافق السياحية في المستوطنات التي تدار من قبل جمعيات استيطانية مدعومة من الحكومة الإسرائيلية التي تقدم تسهيلات وإعفاءات للشركات السياحية العالمية التي تشجع السياح بالمستوطنات.
وناشدت الحملة الفلسطينية المقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل BDS ،عبر بيان بـ”سياحة أخلاقية” تطلب فيه من السائحين “عدم زيارة المواقع السياحية في الأراضي الفلسطينية المحتلة التي تديرها السلطات الإسرائيلية”.
“جرائم حرب”
منذ عام 2019 تعمل منظمة العفو الدولية (أمنستي إنترناشونال) على تصعيد حملات دولية لمقاطعة السياحة في المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، وخصت بالذكر عمالقة السياحة الإلكترونية Airbnb وBooking.com وExpedia وTripAdvisor.
وقالت المنظمة في تقريرها، “من خلال ممارسة الأعمال التجارية مع المستوطنات، تسهم الشركات وتجني أرباحاً من صيانة وتنمية وتوسيع المستوطنات غير القانونية، وهو ما يرقى إلى جرائم حرب بموجب القانون الجنائي الدولي، رغم علمهم أن احتلال إسرائيل للضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية، خاضع للقانون الإنساني الدولي الذي تعتبر المستوطنات الإسرائيلية بموجبه غير قانونية”.
وأضافت، “من أجل تعزيز الحجوزات، فإن العديد من العقارات في المستوطنات تتباهى بقربها من مناطق جمال طبيعي في الأراضي المحتلة، مثل البحر الميت ومحميات طبيعية والصحراء، ومن خلال إدراج هذه المعالم الطبيعية والأنشطة في الطبيعة ومناطق الجذب والترويج لها، تزيد الشركات الرقمية من جاذبية القوائم، وتضمن عدداً أكبر من السياح وتستفيد مالياً في نهاية المطاف من استغلال غير قانوني للموارد الطبيعية الفلسطينية”.
وقال مارك دوميت، رئيس برنامج قطاع الأعمال وحقوق الإنسان في منظمة العفو الدولية في بيان “بترويجها للسياحة في هذه المستوطنات غير القانونية، فإن الشركات تساعد على ازدهار اقتصاداتها وتسهم في المعاناة الهائلة للفلسطينيين الذين اقتلعوا من أراضيهم، وهدمت بيوتهم، ونهبت مواردهم الطبيعية، لخدمة هذه المستوطنات”.
تنديد إسرائيلي
وندد وزراء إسرائيليون بالحملة باعتبارها “معادية للسامية” و”محاولة شنيعة لتحريف الحقائق ونفي التراث اليهودي ونزع الشرعية عن إسرائيل”. وقال وزير الإسكان والبناء زئيف إلكين، إنه يأسف لقيام منظمة العفو باختيار “نموذج معاد للسامية كلاسيكي”. وقال لشبكة “حداشوت” الإخبارية، إن “أمنستي اختارت المشاركة في إنكار الحقيقة التاريخية والعمل ضد مواقع التراث اليهودي”.
وانتقدت منظمة “NGO Monitor” ومقرها في القدس، حملة منظمة العفو الدولية، واصفة إياها بأنها “كراهية خالصة وتعصب يعيد إلى الأذهان بعض أحلك الفترات من الماضي”.
“تضليل الزبائن”
الخطير في ما تقوم به بعض شركات السياحة العالمية التي تبيع رزماً سياحية عبر المواقع الإلكترونية، بحسب وزارة السياحة والآثار الفلسطينية هو “تضليل الزبائن” عندما تكون وجهتهم إلى إسرائيل أو فلسطين وعدم الإفصاح لهم عن أن وجهتهم السياحية ستكون إلى مواقع سياحية وترفيهية بالمستوطنات المقامة في الضفة الغربية المحتلة، بل يعتقد السياح أنهم يزورون إسرائيل”.
ووفقاً لتقرير أصدرته منظمة التحرير الفلسطينية عام 2017، رخصت وزارة السياحة الإسرائيلية ما يزيد على 8 آلاف مرشد سياحي إسرائيلي ومنحتهم تراخيص لدخول المواقع السياحية المنتشرة في إسرائيل والضفة الغربية، بينما لم تتجاوز نسبة التراخيص الممنوحة للفلسطينيين 0.5 في المئة من المجموع، فضلاً على أن السلطة الفلسطينية تقدمت بطلبات للحصول على تراخيص لتطوير ما يزيد على 10 مواقع سياحية في الضفة الغربية، ولكن إسرائيل رفضت تلك الطلبات.