السياحة البيئية في أهوار العراق… إقبال شعبي واسع ودعم حكومي محدود
عالم السياحة-تقرير-ماجد البريكان صحافي
الاهوار -العراق:
مساحات شاسعة من الأراضي المغمورة بالمياه العذبة، وهدوء متناغم مع حفيف نباتات القصب والبردي، وخفقان أجنحة البجع والفلامنكو والبط البري ودجاج الماء، وخوار الجواميس الهادر من قرى صغيرة متناثرة على جزر كالتلال تدعى “إيشانات”… هكذا يبدو المشهد في أعماق أهوار العراق التي تُعد من أثرى مناطق الشرق الأوسط بالتنوع الأحيائي، ولطبيعتها الساحرة كانت وجهة إقليمية استثنائية لمحبي السياحة البيئية في أحضان الطبيعة بعيداً من صخب المدن، وضجيج الأماكن المزدحمة.
موطن الحضارة السومرية
تمتد الأهوار، التي كانت تعرف قديماً باسم “البطائح” على مساحة نحو 8 آلاف كيلو متر مربع، ضمن محافظات البصرة وذي قار وميسان، وأكبرها هور الحويزة وهور الحمّار، والنظرية الكلاسيكية السائدة بشأن نشأتها تفيد بأن مياه الخليج كانت تغمر المنطقة، ثم أخذت بالانحسار التدريجي إزاء تراكم ترسبات دجلة والفرات في السهل الرسوبي، فتشكلت الأهوار بوصفها مستنقعات كبيرة. ويرى الباحث خزعل الماجدي في كتابه الموسوعي “الحضارة السومرية” أن “الأهوار ظهرت في حدود القرن السابع للميلاد، فهي متأخرة عن حضارات وادي الرافدين التي لم تشهد أهواراً، ولذلك عثر على الكثير من آثار الحضارة السومرية داخل الأهوار الحالية لأن أرضها كانت مأهولة بسكان الريف السومري بشكل خاص”.
وما زال سكان الأهوار يصنعون زوارقهم التي تدعى “المشاحيف” وأكواخهم التي تسمى “صرائف” على الطريقة السومرية التي توثقها رسومات على ألواح طينية، وما زالت لهجة سكان الأهوار مشبعة بمفردات من القاموس السومري، وحتى بعض العادات الاجتماعية تبدو متوارثة من تلك الحضارة التي تربعت لقرون عديدة على عرش حضارات العالم القديم، وكانت صاحبة السبق والريادة في ابتكارات عديدة، أهمها اختراع الكتابة، وهو الإنجاز البشري الذي اختط الحدود الفاصلة بين عصور ما قبل وبعد التاريخ، وكل ذلك منح الأهوار في الحاضر قيمة مضافة إلى أهميتها البيئية والاقتصادية والسياحية.
طبيعة غنية بالتنوع الأحيائي
تزخر مياه الأهوار بأنواع عديدة من الأسماك النهرية، فضلاً عن أنواع من القشريات والسلاحف والأفاعي المائية، ويعد القصب النبات السائد في الأهوار، يليه البردي وأنواع أخرى من النباتات مثل زنابق الماء وعروس النهر وعشب البط. ومع بداية كل فصل شتاء تقصد الأهوار مئات الآلاف من الطيور المهاجرة، وخلال الربيع تعود إلى مواطنها الأصلية في الدول الاسكندنافية وسيبيريا وشرق آسيا ضمن هجرات كبرى، كما تستوطن بيئة الأهوار حيوانات ثدية كالخنازير والقطط البرية وبنات آوى، فضلاً عن أنواع مهددة عالمياً بخطر الانقراض، أبرزها القضاعة ذات الفراء الناعم التي لا توجود في مكان آخر من العالم.
ومثلما يتفرد البدو بتربية الإبل، يتميز سكان الأهوار بتربية الجاموس، وتعتمد معيشتهم عليه بنسبة كبيرة، وهو أحد أركان الثروة الحيوانية في العراق، وتشير بيانات رسمية إلى وجود أكثر من 250 ألف جاموس، وهناك من يظن، بناءً على روايات تاريخية، أن الجواميس نقلت من الهند إلى العراق أثناء ولاية الحجاج بن يوسف الثقفي خلال العهد الأموي، لكن ثمة نظرية أخرى تفيد بأنها حيوانات مستوطنة في وادي الرافدين منذ آلاف السنين، وكانت تعيش حرة في البرية قبل تدجينها منتصف الألف الرابع قبل الميلاد، وتشفع لأصحاب هذه النظرية رسومات للجاموس على رقم أسطوانية وأختام عاجية سومرية.
اهتمام غربي متأخر بالأهوار
الكثير من الكتاب والباحثين والرحالة والمغامرين الغربيين شدوا الرحال إلى أهوار العراق خلال القرن الماضي، وبعضهم لم يكن مروره عابراً، كالصحافي البريطاني غافن يونغ الذي مكث في الأهوار أشهراً عديدة، وأصدر في عام 1977 كتاب “العودة إلى الأهوار” الذي يعد من أجمل ما كتب عن هذه البقعة من العالم، وتردد أيضاً على الأهوار الكاتب والمغامر ولفريد ثيسيجر خلال الخمسينيات، وفي عام 1964 أصدر كتاب “عرب الأهوار”، وخلال الفترة نفسها وجود عالم البيئة الاسكتلندي غافن ماكسويل، وتمخضت رحلته عن كتاب “قصبة في مهب الريح” الذي سجل فيه انطباعاته ومشاهداته.
ويبدو أن الاهتمام الغربي بالأهوار خلال الخمسينيات والستينيات مهد لتنشيط السياحة فيها خلال السبعينيات، لكن النشاط السياحي وئد في مهده عندما نشبت حرب الخليج الأولى (1980-1988)، حيث دارت رحى بعض معاركها في الأهوار، وخلال التسعينيات تكبدت الأهوار أعنف انتكاسة بيئية في تاريخ العراق المعاصر، حين تم تجفيف أجزاء كبيرة منها بجهد هندسي منظم أدى إلى انكماشها بنسبة تصل إلى 80 في المئة، وكان الهدف المعلن تنظيم قطاع الموارد المائية، لكن ثمة مبررات أمنية كانت مستترة وراء التجفيف، فالأهوار كانت خلال تلك الفترة ملاذاً لجماعات وتنظيمات سياسية معارضة، ومنطلقاً لشن هجمات مسلحة ضد نظام صدام حسين، وبعد الغزو الأميركي في عام 2003 سارع سكان محليون إلى كسر السداد وهدم الحواجز الترابية، فتدفقت المياه مجدداً في الأهوار، وعادت لها الحياة من جديد.